recent
أبحر معنا

رواية الزنزانة رقم 06- Novel - Prison Cel No. 06 -تأشيرة إلى جهنم


تأشيرة إلى جهنم

https://interactive010101.blogspot.com/2018/11/blog-post.html

 

 

 Visa to hell

لا زلت أجوب المدينة وأنا أرتدي ثوب المجنون لا يعرفني أحد، نسيني الجميع؛ الأصدقاء والناس، أما الأهل فلا أظن أحدا يفكّر بي، آخر شخص كان أبي رحل قبل سنوات ... زوجة أبي وأخوتي من أبي لا أظنهم يذكروني، الأفضل أن أبقى على حالي هذه خصوصا أن المدينة تعاني الثورة والحرب المستمرة، أنا أتجوّل براحتي ولا أحد يضايقني من أي فريق الكل يُطعمني بل يعطيني السجائر... أخخخخ السجائر الشيء الوحيد الذي اشتقت له وأنا في زنزانتي اللعينة أكثر من سنة ربما سنتين، نسيني الأوغاد فيها، لي وجبة واحدة في اليوم، وحارس وكاميرا وصعقة كهرباء، معادلة صعبة، عانيت معها الكثير، كدت أهلك، حتى فتحة التهوية الوحيدة في الزنزانة لم تؤنسني كثيرا في وحدتي مع ما كانت تحمله من أخبار المدينة، فهي مصممة لنقل أخبار السوق إلى الداخل دون أن يشعر أحد بوجودي، فلا يمكن أن يخرج منها الصوت، سمعت الكثير وحملت أسرار العديد من العباد  عمي رابح الخضار وعمار السراق ومصطفى الخيشة وغيرهم كثير، لكن ما دفعني للتشبّث بالحياة أكثر هذه المذكرات التي أحملها معي دائما، ونجت معي من الغرق في الزنزانة في يومنا الأخير، فلولا الثوار لما نجوت من الغرق، كانت المياه تغطي المكان بعد أن تدفّقت بغزارة من فتحة الأصوات والقصص.... مذكرات حزينة لرجل مات فيها قبل عشرين سنة ... حمّلها حزن وطن، إنها رسالة تحمل الكثير، يريد أن يوصلني إلى وثائق مهمة، لكني شخص تافه، لا معنى لي في الحياة لا قبل دخولي الزنزانة، ولا بعد خروجي، فما كان دخولي إلا بسبب رسالة فايسبوك أرسلتها لابن عمي زكي الذي لم أكتشف أنه ابن عمي إلا قبل سنوات فقط في الجامعة... ما ذنبي إن كان في القتال في بلد عربي قريب، كل ما أردته ان أطمئن عليه أو يساعدني، وأنا لا أملك شيئا سوى شهادتي الجامعة في الحقوق، سجنت ظلما ولولا الصدف لما كنت حيا، ها أنا أجوب المدينة بعد خروجي وكأنني مجنون لم أغيّر هيأتي ولن أفعل، معي المذكرات إنها مفتاح وجودي الآن بجزأيها (الثمانين والأربعين ) وفيها صورة الضاوية آآآآه الضاوية كم أتمنى أن أراها، هي ابنة صاحب المذكرات بالتبني ... كان يحبّها كثيرا التقى بها على غير موعد لكن الأوغاد خطفوه منها... يجب أن أبحث عنها وعن الوثائق السرية، لكن قبل ذلك عليّ إيجاد مكان أستريح فيه من هذه المدينة المتعبة... أظنني أعرف المكان، لا يوجد غير المقبرة وعمي سعيد طالما احتضننا في أيام الجامعة والبطالة ..
(للتفاعل وإضافة مسارات جديدة اضغط هنا/ اكتب الرمز مع الرسالة.20)
أشق طريقي بين الشوارع أسمع كلاما كثيرا، والقليل من الموسيقى منبعثة من بيوت مهدّمة، ماذا يفعل الشاب مامي بين الانفجارات ورائحة الموت ... أكيد بعضهم يريد النسيان أو الانفجار..


 



مرت أيام وأنا مع عمي سعيد أساعده على حفر القبور، وآكل معه ما يتم احضاره لنا من طعام من أهل القتلى، أبقيتُ على شكلي مع بعض التهذيب والتنظيف أصبحت كشيوخ الصوفية، وبدأت آخذ مكاني معه وأتوسّط الحلقات التي كانت في الغرفة ويحضرها الثوار والطلبة، لم يعرف أحد هويّتي إلى الآن سوى عمي سعيد حتى أصدقائي يبدو أن أغلبهم غادروا المدينة أو ماتوا تحت الأنقاض صار اسمي الشيخ البكري لقب أطلقته على نفسي بعد أن أحرجني أحد الجالسين وسألني عن اسمي في الأيام الأولى من صحبتي لعمي سعيد، صرت أقرب إلى الله من ذي قبل،أصبح عمي سعيد يقدّمني للصلاة على الجثث المقطّعة والمحروقة التي كنا ندفنها جماعية في بعض الأحيان... وما زاد تشبثي باسمي وصفتي الجديدة لما تناقل البعض خبر رجل كان معتقلا في الثكنة وله معلومات عن صاحب الانقلاب، وهو من أخبر النظام بالكمين وتم إخراجه لكنه اختفى والثوار والنظام يبحث عنه، عرفت أن قصصا حيكت من ورائي ولو كُشف أمري سأكون في زنزانة الثوار يحققون معي حول الانقلاب والخيانة وأمور لا أعرفها أصلا ... بئس الاشاعات التي تقتل إنسانا دون ذنب هي مشكلتنا في بلادنا على اختلافها، سواء كنا نظاما أو ثوارا أو شعبا نحن نشك في الجميع، ونحكم على الآخر بالوشاية، ولا نملك مشروعا ولا أخلاقا تؤهلنا لنكون أمة تنافس الآخر، وتتعايش مع ذاتها ومعه، ينقصنا الكثير كي نصل إلى السطح ونسير مع الأمم على الطرق المعبّدة، ما زلنا كالديدان نزحف تحت الرمل نخاف ضوء الشمس ونعلّق كل أزماتنا على الآخر، ولا فخر لنا إلا ما قام به أجدادنا الذين ماتوا من مئات السنين....

التستّر في الشيخ البكري كان ملاذي الوحيد حتى أن أحد قادة الثوار كان يحضر لحلقاتي ويعجبه كلامي أصبحت محور الحديث وصاحب الحكمة والبركة ... قرّرت البقاء على هذه الهيئة حتى تستقر الأوضاع في البلاد وبعدها أهرب من المدينة أو أترك البلاد... أو ربما أبحث عنالضاوية.لا زلت أذكرها خصوصا وأنا أختلس النظر للمذكرات التي أخفيتها بعناية في المقبرة، فقد أصبحت سيّد المكان، ومازالت الصفحة (39) غير قابلة لأن تتقبلها عيناي كنت أتركها للصفحة (40) وأقرأ وصْف الضاوية كما أستعيد ملامحها في الصورة وأتذكر أنني رأيتها من قبل لكن لا أذكرأين.. انتهت المذكرات واسم الرجل غير موجود إنه نكرة بالنسبة لي ... ربما اسمه في الورقة الغامضة.. لا أظن هي ليست الأخيرة ولا الأولى كي تحمله، فالعادة أن يُحمل اسم صاحب المذكرات عليهما... من يكون يا ترى... سأعرفه لما أجد الضاوية أو ربما سأنقّب في أسماء الجرائد القديمة أو بعض الأسماء لرجال الأعمال وعلاقاتهم بالصحافة... يجب أن أعرف اسمه إنه المسجون الشبح، لم يذكر اسمه ولو خطأ طول المذكرات وكأنه يتعمّد ذلك، هل كان خائفا على أحد؟ أم من أجل التمويه... أسرار كثيرة تحيط بهذا الرجل...
(للتفاعل وإضافة مسارات جديدة اضغط هنا/ اكتب الرمز مع الرسالة.21) 



 ربماكان يتجسس عليهم ويرصد جميع تحركاتهم أوأنه كان متعاونا معهم إذا لماذا وضعوه في الزنزانة إن كان كذلك ،المهم إنه صحفي وعمل الصحافيين جمع المعلومات وما هذه المعلومات التي جمعها حتى وضعوه فيها هناك تسؤلات كثيرة حول هوية هذا الرجل وتلك الخربشات على الحائط هل هو من كتبها ام شخص اخر كان في الزنزانة يجب علي استشارة عمي السعيد كي احل هذه الألغاز والعثور على الضاوية اصبح هدف في حياتي يجب علي إيجادها فهي وحدها من تعرف هذا الرجل (إضافة الكاتبةMardiya Larousi
)


مر شهران على نزولي بالمقبرة وبدأت الأوضاع تستقر في المدينة، فقد اتفق النظام مع بعض الثوار على نوع من الحكم الذاتي، على أن تبقى المؤسسات التابعة للدولة في العمل وينسحب الجيش من أطرافها، ويبقى فقط رجال من الشرطة وعدد من الثوار يديرون شؤونها من الداخل .... اتفاق يحمل الكثير من الألغام، وفيه شبهات كثيرة حول قادة الثوار في أنهم قبضوا ثمن خيانتهم للثورة ومهادنتهم للنظام، لكن البعض يرى فيه اتفاقا مهما كي يجنّب الناس الموت كل يوم، ويضمن للثوار تنظيم صفوفهم وترتيب أوضاعهم..
 أنا لا تهمني الثورة ولا النظام كل ما يهمني ألا أقع في يد أي منهما بأي ثمن، سأهرب من المدينة في أول فرصة تأتيني لكن قبل ذلك سأحاول فك رموز المذكرات....

الناس بطبعها تحب الخرافة تصدقها وتكذّب الحقيقة، هذا ما بدأت أشعر به مؤخرا، فقد بدأ الناس من حولي يؤلفون الأساطيرمعتقدين أنني سبب الشفاء أو الرزق.. أحدهم اعتقد أنني سبب حمْل زوجته العاقر بعد أن زارني، وكنت أمازحهم في الليل، فقلت له كل بملعقتي، ثم اتجه لبيتك ستحبل زوجتك خلال هذا الشهر.. جاء بعدها وذبح خروفا وأكلنا منه جميعا، خشيت أن أقول له كنت أمزح فأسبّب مشاكل كثيرة... سكتت على الأمر خصوصا أننا تمتعنا باللحم المشوي وفرحنا كثيرا مع الرجل، لأنه سيرزق طفلا بعد سنوات من الانتظار... لكن ما فاجأني هو شفاء أحد الرجال ممن كانوا يجلسون معنا من مرض عضال في مفاصله بعد يومين من أخذه لحذائي القديم كي يلبسه، وجلب لي حذاء جديد وكان يتبرّك بحذائي، فجاءني يركض بقوة كالحصان، وهو يصيح ومعه جمع من الناس ويقول بركاتك يا شيخ البكري ... كانت هذه الحادثة الثانية التي جعلت الأمر يتفاقم، فقد أصبحت غرفة المقبرة مزارا للناس، ومهما حاولت الهروب يجلبونني؛ نساء تردن الزواج رجال مربوطون .... وكأن الجميع نسي الحرب وأصبحت المخلّص، كل ما كنت أخشاه ليس خداعي للناس، فأنا لم أفعل شيئا هم من صنعوا وهمهم، ما كان يخيفني بعض عناصر الثوار من أصحاب الاتجاه الديني، فهم لا يتورّعون أن يحكموا عليّ بالسحروالردّة وإفساد الناس ويقتلوني، لهذا كنت أحاول إنهاء هذه المسرحية بسرعة قبل أن تتطوّر الأمور أكثر..
مع حيرتي المستمرة ظلت المذكرات تطاردني بأحداثها، لهذا قررت أن أخبر عمي سعيد بها، لعلي بمشاركته أصل إلى حل لألغازها فأتخلّص من ثقلها وأزيح ما أنا عليه من شخصية وأعود كما كنت أو أهرب نهائيا وأصبح إنسانا آخر....

كانت دهشة عمي سعيد كبيرة وهو يطّلع على كل تلك الحقائق، عرف بعض الأسماء لكنه ليس متأكدا فهي قديمة، خصوصا من تركوا البلاد، بدأنا في محاولات فك الرموز، جرّبنا طرائق كثيرة لتجميع الألغاز داخل الأوراق لكن دون جدوى كانت تُفضي إلى اللاشيء... استمرت محاولاتنا لأسابيع، وفي الوقت ذاته استمرت مهنتي الجديدة في تغليف حياتي بالكذب على الناس ودفنهم، بمرور الوقت بدأت أصدّق كذبي، فنادرا أن يحدث غير ما أقول، الكثير شفي أمامي وأنا لم أفعل شيء حتى عمي سعيد قال لي أكيد أنها كرامة من عند الله فأحفظها، كنت ابتسم  لكلامه وأقول أنت أكثر الناس علما بأن هذا دجل...

كنت سعيدا وأنا أمنح الناس السعادة رغم أنني أشعر بكذبي عليهم، لكن ما كان يعزيني في الموضوع أنني لا أقبل منهم أموالا على الاطلاق، فقط طعام أو لباس لي ولعمي سعيد أو نعطيه لبعض الفقراء الذين أصبحوا يسكنون تحت جدار المقبرة ... يبدو أني سأصبح شيخ زاوية ....
مرهق جدا، مدينة تأكل بعضها، الموت في كل مكان، والمضحك أن الناس ما زالت تعتقد في الماورائيات والدجل، أمر محزن ... ما آل إليه العربي.. 

الضاوية بن الجبلي ربما هي أول خيط... تراني سأصل مع عمي سعيد لنتيجة، أحيانا أفكر في ما نقوم به وأصل إلى نتيجة أنه لا طائل منه، فسبب فشل المدينة ذهنيات الناس وما خرابنا إلا بأيدينا، وإن وصلنا إلى الوثائق فلا أظن أنها ستشكّل فارقا، فالناس تعرف كل شيء ولا تحتاج دليلا على ظلم النظام الذي يعتبر نتاج الناس أنفسهم، نحن من يصنع الطغاة... صرت أتكلّم كأصحاب الكتب التي قرأتها...  


تأخرت البارحة في سهرة مع عمي سعيد، فضفض فيها كثيرا، فهو يحمل أحزانا متجذّرة، وأكثر أحزانه فقْده لولديه، الحرب لعنة تصيب البسطاء في أعز ما يملكون، لا يهم مع من الحق المهم أن الأبرياء هم من يموتون ويدفعون ثمن أطماع وجشع القادة أو الثوار....
(للتفاعل وإضافة مسارات جديدة اضغط هنا/ اكتب الرمز مع الرسالة.22)

لا أدري ما دفع عمي سعيد لتذكّر طفولته أيام أشجار الكروم وعمله من أجل إعالة أمه الحاجة خديجة التي أنجبته على كبرْ، تذكّر أيام المجاعة والحروب التي أتت على الجميع وكأن هذه المدينة مكتوب عليها الدم والفقْد منذ القدم ... أيّ أرض تذبح أبناءها بهذه القسوة، الكل مر من هنا وأخذ ما أخذ، من قتل وتشرّد، منذ الروم إلى الغرب إلى الأذناب، وها هي لعبة أخرى تُدخلها في أتون حرب لا خلاص لنا منها... الحاجة خديجة ظلت تردد: تراب هذه الأرض ينتفض ويحتاج للدم كي يروى لأنه لا يقبل الفساد والمفسدين، ظلت في كوخها في الجبل حتى وافتها المنية، يذكر عمي سعيد أنه سُجن لأسبوع بسبب غاصب الأرض، وتأخر عنها فلما رجع وجدها ميتة وفي يدها سبحتها، لا يدري كم مضى عن موتها، لكنها حافظت على هيبتها كانت تنظر إلى السماء وهي تبتسم، وكأنها تنتظر الملائكة ليخلصوها من تعب الجسد.. لم تسقط على الأرض وعيناها مفتوحتان وجسدها كما هو... كانت وصيّتها أن تبقى في الجبل بعد موتها فكان قبرها في أعلى القمة كما أوصت ... أنا أحترم أصحاب المواقف ... رفضت العيش في القرية التي يعيش فيها بعض مغتصبي الأراضين رفضت الخضوع لأحد، إنها حرة وكذا جدها الأول ... كان عمي السعيد يحكي أمه وكلّه فخر وشوق لها رغم أنه مضى على وفاتها أكثر من خمسين سنة....


لم تثرني أحاديث من جالسونا ليلة البارحة أحدهم يتكلّم عن تجربته في أوروبا وكيف كان ينتقل بين مدنها بسهولة، ويعمل كالتيس المستعار، فلا يدري كم من ولد له في أروبا حتى أنه شك في أحد رؤساء إحدى الدول أنه ابنه للشبه بينهما، وقال قد مكثت في تلك البلاد لأكثر من سنتين ولا أذكر عدد النساء اللاتي بتّ معهن... كان يعتقد أن الأمر مجرّد متعة لكن عرف فيما بعد أنه ليس كذلك، فقد كانوا يركزون على هيئته وشكله القوي كي يجلب لهم أطفالا مثله ... يشبه زواج الاستبضاع في الجاهلية... أخبرنا بأنه ندم وتاب وحج عشر مرات قبل أن يعود نهائيا للبلاد...
أمر يدعو للضحك أن يكون زعماء الغرب من أباء عرب ... لا أدري مصداقية ما كان يحكي لكننا في عالم متناقض وكل شيء وارد....
ما يحيّرني حالي التي وصلت إليها، فأنا الآن شيخ له بركاته أكفّن وأدفن وأصلي على الموتى ... أنا الذي لم أكن أصلي أصلا حتى أنني لا أحفظ إلا قصار السور حفظتها منذ كنت أدرس في مسجد القرية... كانت أياما مختلفة لها طعمها الخاص ونحن نعبث بالماء والشجر في محيط المسجد ونحفظ وننسى ونُضرب ... لم أنس ما حفظته من قصار السور توقفت سريعا عن الحفظ بسبب زوجة أبي... تخليْت عن تديّني نهائيا، وكأنني أنكر وضعي وعائلتي، فلم نكن سوى بؤساء يعيشون دون مستوى الناس .... واستمرت حياتي تتقاذفها الظروف القاسية إلى أن أصبحت على ما أنا عليه....
اليوم على غير العادة الناس تهرول والمدينة بجزئها الشرقي ترتعد فقد سيطرت جماعة مسلّحة على مختلف المرافق الحية ويُقال إنها ذات توجّه جهادي ديني متطرّف ... أخبار لا تُعجبني وأعرف أنني سأصبح أول أهدافهم... وفعلا ما كاد يصل مساء اليوم التالي الذي سيطروا فيه حتى جاءني رسول منهم يحمل سلاحه على كتفه، في البداية تكلّم بحزم وأخبرني أن أكفّ عن الكذب على الناس وأن لا أجمعهم في غرفة المقبرة ... ثم نظر إلى الخوف في عيني عمي سعيد، فزاد جرعة المطالب وكأنه يأمرنا .. فأخبرنا أنه علينا الرحيل من المقبرة لأنها ستصبح مقبرة المسلمين على طرازهم هم، وسوف يعيّنون قيّما جديدا عليها... كان سلاحه على كتفه بمثابة كلمة اخرس لي ولعمي سعيد لم ننطق بكلمة.... نظرنا إلى بعضنا ونحن لا نملك شيئا غير هذه الأموات وصحبتها... قلنا بلسان واحد حاضر سنغادر ... لكن أمهلونا يومين كي نرتّب أمورنا.... هز الملتحي رأسه بالإيجاب ثم حملق فينا بحزم وهو يقول: لا أريد أن أراكما بعد يومين وإلا ستواجهان تهما كثيرة.. ولْتعلما أن أخباركما عندي...
لم نرد عليه وعرفنا أننا مسجّلين عند هذه الجماعة التي نشطت منذ بداية الثورة لكنها كانت سريّة وتستعد وتنظم صفوفها، ولما اكتمل عددها وعدتها قفزت على الجميع، وهي تسيطر على أغلب المدينة.. تبا لهم إنهم كالجرب ينتشرون في كل مكان...
(للتفاعل وإضافة مسارات جديدة اضغط هنا/ اكتب الرمز مع الرسالة.23)








مضت ليلتنا طويلةً، لم يستطع أي منا الكلام مع الآخر... إلا ببعض الجمل الميّتة... جاء الصباح وأملنا أن نجد مأوى كي نختبئ فيه من هؤلاء الأوغاد، فالمدينة لن تسعنا معا... اقترح عمي سعيد الذهاب لقريته القديمة ففيها يسكن بعض أقربائه... أنا لم أقترح شيئا، فكلما تذكرت زوجة أبي كرهت الحياة أصلا.... بدا اقتراحه الأفضل ولم يكن لي خيارا إلا أن أوافقه ... حزمنا أغراضنا البسيطة وودّعنا أمواتنا وحرصنا على إخفاء المذكرات تحت الأغراض كي نضمن عدم مساسهم بها، فقد كانوا منتشرين في كل مكان، ويفرضون منطق سمائهم على كل من يسكن هذه الأرض.... كنا نهم بالمغادرة لكن قبْر عمي سعيد كان يناديه، خطوات خارج الغرفة إذ بوابل من الرصاص يرصّع جسده النحيل كانت سيارة مسرعة تقل أفرادا يطلقون النار بشكل عشوائي على سيارات أخرى كانت على الطريق وتبدو كسيارات البلدية... إنها عملية اغتيال في وضح النهار لم تصب الرصاصات هدفها لكنها أصابت بريئا كان يدفن موتى المدينة... مات عمي سعيد على فوره ... 



تجمّع الناس بسرعة...
ثم جاءت جماعة الشؤم ومعهم صاحب اللحية القصير، قال أحدهم من قتله، فقلت اسأل الحجر والشجر... فنهرني أحد منهم وقال أجب ولا تهزأ... قلت أنتم تعرفون من القاتل .... قال صاحب اللحية لو ذهبتم قبل يومين لما مات الرجل... قلت كتب الله ذلك... فردّ آخر ونعم بالله ... هيا لندفن الرجل واسألوا عن أهله... قلت لا أهل له أنا كل من تبقى له من آلة الحصاد... قال صاحب اللحية، وكأنه لا يكترث بالميت، قدره كما قلت والحمد لله أن لا أهل له يبكونه... قلت ستبكيه السماء... فنهرني آخر، وقال ما بك يارجل، وما هذا الكلام الغريب الذي تقوله أتعتقد أننا من قتلناه... فنبّهه صاحب اللحية وقال هذا هو الشيخ البكري الذي حدّثتكم عنه... قال قائدهم يجب أن نستجوبه... في هذه الأثناء وصل تجمّع الناس لذروته، وأغلبهم يعرفني وبدأوا يشكلون جدارا بيني وبين الأوغاد... قال أحدهم الملتحين دعك منه الآن لن يهرب سنستجوبه فيما بعد .. لا نريد قتلا، فالأمير أمرنا بتحسين الصورة لنذهب، وليدفنوه ...

ذهبوا كالخفافيش كما جاؤوا ... 


كان جسد عمي السعيد خفيفا جدا ونحن نحمله إلى مثواه الأخير مخضبا بدمه، كانت بسمته تعلو شفتيه... قبره جاهز منذ سنوات .... شعرت به وهو يستعجلنا كي يلتحق برفاقه، وولديه والحاجة خديجة... جاء الناس من كل صوب امتلأت المقبرة بالناس وكأنهم تحوّلوا فجأة أهلا لعمي سعيد... كنت أنظر للجميع بتمعّن ومن بين الحاضرين بعض من ضباع الظلام كانوا ينظرون بمكر وخبث، أنا أعرفهم من نظراتهم ورائحتهم القذرة... عرفت أنهم جاؤوا لي، وماهي إلا ساعات عندما ينفض الجميع سيلقون القبض علي وهذه المرة لن أعاني معاناة  الزنزانة 06.... الأمر سيكون أصعب ولن أنجو منهم....
رميت أول حفنة تراب في قبر عمي سعيد، ومن بين الجموع بدأت التسلل، اتجهت نحو أغراضي بجانب سور المقبرة أدخلت يدي أسفلها أخرجت المذكرات وأدخلتها تحت قميصي في مكانها الذي ألفتْه... ومعها أخذت مقصا وشفرات حلاقة... كانت تدور في رأسي خطة للخلاص... تركت الجميع وتخفّيت إلى أن وصلت طرف الشارع عرفت أنهم سيلاحظون غيابي... لم تمر سوى دقيقة عن هروبي من بين الجمع، ما زلت أسمع أصواتهم تتكلّم، إذ بصوت اطلاق نار كثيف في المقبرة عرفت حينها أنهم لم يجدوني ففرقوا الجمع ... هرولت مسرعا بين الشوارع إلى أن وصلت إلى أحد المساجد الصغيرة في الطرف الآخر، دخلت الحمام وبدأت في قص شعري ولحيتي ثم قمت بحلقهما بالشفرات وحلقت بعضا من حاجبي لتتغيّر ملامحي نهائيا، وتخلصت من كل الشعر في الحمام.... مكثت في حمامات المسجد إلى غاية أن رفع آذان المغرب خشيت أن يُمشطوا النواحي ولباسي مازال معروفا، كما أردت أن تنزل الظلمة كي أستطيع التخفي في الأحياء الداخلية، لعلي أجد مهربا من هذا الجحيم الذي يقتحم المدينة، ...أصوات المصلين ووقع أقدامهم يعم المكان أبقيت الباب مقفلا عليّ من الداخل ... يبدو أن المدينة كلها أصبحت تصلي بعد يومين فقط من سيطرة هذه المجموعة.. عشر دقائق كانت كافية ليصطفوا خلف الإمام ويسمحوا لي بالتسلل خارج الحمام كان هدفي أن أحصل على حذاء جيد من المصلّين، لكن كرَم المسجد كان كبيرا فقد وجدت غرفة القيّم على المسجد مفتوحة دخلت وأخذت سروالا وقميصا... و حيّرني نوع السروال الجينز، كيف للإمام أن يلبسه؟ ... تذكّرت أنه كان في النظام السابق والآن هو مع هذه الجماعة، ويبدو أن هذا اللباس هو زي للحاجة، متى سقطت الجماعة سيغيّر مثلما أفعل أنا الآن .... مازال الإمام في الركعة الثانية، صار يطيل الصلاة يبدو أن عيون الجماعة في كل مكان، ولو خفّف قد يحكموا عليه بالردّة.. هذا في صالحي، ومن أحذية المصلين اخترت أفضل الأحذية الرياضية يبدو أنها لشاب قوي البنية هي على مقاسي تماما... لن يغضب مني إن أخذتها عنه خصوصا لما يعرف أن رأسي سيقطع إن لم أهرب، ربما كان أستاذ رياضة أو لاعب كرة قدم هي حرام اليوم، فلن يحتاج حذاءه مرة أخرى على أية حال.. ثم أنا أعرف أن أغلبهم لا يريدون الصلاة هم مجبرون .. الله لن يقبل منهم شيئا بل هو ليس محتاجا لهم... كنت أهم بالهرب والإمام يرفع الركوع من الركعة الثالثة قابلني وجه في الصفوف الأولى ... وجه لا يمكنني أن أنساه إنه أستاذ القانون الجنائي الذي درّسني في الجامعة السيد خرشف هكذا كنا نسميه، كان نموذجا للفساد على جميع الأصعدة، كان للنجاح ثمن مادي إما نقود أو علاقات مع البنات، أذكر أنني عملت عنده بالسخرة لأكثر من شهر في محله كي أنجح... من وجهه يظهر الخشوع ... أقسم لو رأيته يخرج من الجنة لما صدّقته ..اللعنة عليه وهم معه...
غيّرت ملابسي في أول بيت مهجور قابلته وأشعلت ملابس الدرويش بولاعة كانت في جيب الجينز الخاص بالإمام!!...
(للتفاعل وإضافة مسارات جديدة اضغط هنا/ اكتب الرمز مع الرسالة.24)
خرجت مسرعا واتجهت نحو المنحدرات حيث الأحياء السفلية، لم ألتق بالكثير في طريقي الكل ينظر إلى الكل، الجميع خائف ومتوجّس، لم أظهر بشكل مختلف، الجميع كان مثلي ... لدرجة أنني شككت أنهم كلّهم حلقوا لحاهم الآن، وينظرون إلى بعضهم البعض... وصلت إلى ساحة صغيرة بها بعض الشباب بدؤوا بالنظر إليّ، وعلامات معيّنة تعتلي وجوههم، لما اقتربت منهم أشار إليّ أحدهم ببضع الكلمات، وقال: استدر يمينا بسرعة ولا تواصل السير في الشارع، أدخل أول بيت واغلق الباب فهم خلفك .. لا أدري كيف صدّقته وفعلت ما قال دون تفكير ... لحظات وسمعت وقع أقدام كثيرة في الشارع من أمام الباب الذي دخلت منه... كان قلبي يدق بسرعة عرفت أن تلك الوجوه كانت تراقبني وتعرف أني لست من المنطقة، فأخذوا الأوامر ليعتقلوني ... لكن لمَ ساعدني هؤلاء الشباب... سؤال لم يطل وقت انتظار اجابته، دقائق والفتية أمامي يدخلون من باب آخر... تكلّم أحدهم وكأنّه يعرفني وقال : كم من هاتف أعطاك صلاح وأين الدولارات لا أرى معك شيء...
قال الآخر ربما خبّأها في مدخل الحي رأيتهم يتبعونه..
قلت متعجّبا: أي صلاح وأي هاتف وأي مال أنا ...
قال آخر: أخبرتكم أنه ليس هو ...
قال الثالث: قال لنا أنه أصلع وبلا لحية ويرتدي جينز..
ردّ آخر وهو يُجري مكالمة هاتفية: سأتصل به وأطلب منه إرسال صورته أو يعطينا أوصافا أكثر دقة..
يرد آخر وما نفعل بهذا
قلت لهم يبدو أنه حدث سوء فهم فقط أتركوني أرحل..
قال الأول سوء فهم سيجعلك تدفع حياتك..
أخرج أحدهم سلاحا من تحت قميصه.. وأشهره في وجهي وقال لا تتحرّك.. وإلا أطلقت عليك النار ...أنا في دهشة من أمري لدرجة أنني لم أتكلّم ولم أظهر أي حركة استجداء...
لحظة وتكلّم صاحب الهاتف يخاطب من على الخط قال له اعطنا أوصاف أكثر جاءنا رجل لكنه ليس هو ... ثم سكت قليلا وكأنه ينتظر شيئا..
قال أحدهم ماذا قال لك
فردّ عليه، سيرسل صورة له لكنه طلب مني أن أبقى على الخط..
فقال الثالث وما نفعل بهذا ..
رد" عليه صاحب الهاتف ... نتخلّص منه قيّدوه ... يجب ذبحه كي لا يُصدر صوتا..
 لِلَحْظة فكّرت أنها النهاية وقلت في نفسي سأستريح أخيرا،  فيبدو أن هؤلاء الشباب تابعين للنظام وسيرسل لهم إمدادا كي يقدّموا معلومات عن الجماعات المسلّحة، ولما اخطؤوا في تحديد الرسول، يجب قتلي كي لا أفشي سرهم عند الجماعات... لا مهرب لي الآن وأحتاج لمعجزة جديدة ... لكنني ليست نبيا كي تتكرّر معجزاتي... تقدّم مني أحدهم وقال ضع يديك خلف ظهرك... ما كاد يكمل الجملة حتى حدثت المعجزة فعلا ... انفجار قوي يهز المنزل بمن فيه، يبدو أنها قذيفة مدفعية أو صاروخ من شدّة الانفجار تكوّمنا جميعا وفقدت الوعي ... لم أستعد وعيي إلا على أصوات التكبير... فقد همّت مجموعة من الشباب بإخراجي من تحت الأنقاض لا أدري كم من الوقت بقيت هناك، فالشمس عند اخراجي كانت قوية، لم تحمل عيناي من مشهد الأنقاض سوى بعض الأشلاء المتناثرة ورِجْلٌ مقطوعة تلبس فردة حذاء هو آخر شيء شاهدته لما أرادوا تقييدي، يبدو أنهم تمزّقوا بفعل الانفجار.. كان هول الصدمة كبيرا، الجميع يكلّمني لكن لم أستوعب منهم شيئا، كنت كمن خرج من قبره للتو إنه يوم النشور بالنسبة لي ... سمعت أحدهم يتكّلم عن صاروخ ذكي قصف البيت فقط... عرفت حينها أن من كلّموه جعلهم طعما وهدفا لقربهم من الجماعة أو ربما أراد الخلاص منهم لأهداف أخرى، وتم تحديدهم بالهاتف... كُتبت لي حياة أخرى إصاباتي خفيفة بعض الكدمات والجروح فقط... حُملت إلى مشفى ميداني وأسعفوني .. وجدت الكثير من المصابين، لحظات وجاء أحدهم يرتدي لباسا رسميا وحيّاني وطلب اسمي، لكني لم أرد، وكأنني أصم أو مصدوم.. أنقذ الموقف أحد المسعفين وقال له أخرجناه للتو من تحت الأنقاض يبدو أنه مصدوم سيتعافى قريبا ويخبرك..
فقال له الآخر أنا لم أره من قبل ربما هو عميل ..

فقُبض قلبي من شدة الرعب وقلت في نفسي لا بد أن أهرب بأقصى سرعة قبل أن يكتشفوا أمري... ما زلت أتفرس في وجوه الممرضين والجرحى والرجل الغريب حتى جاء أحد الشباب الذين أخرجوني من الأنقاض وهو يحمل في يده بطاقة قدمها للرجل وقال له يبدو أنها لهذا المصاب... أمسك الرجل البطاقة بعناية ونظر لي وقال أنت من الجنوب ما أتى بك إلى هنا... فقلت في دهشة... العمل ...
قلب البطاقة فرأيت اسم صاحبها واسم أبيه زكريا لكن الصورة بدت غير واضحة...
قال الرجل لي وكأنه يختبرني هل تعرف أين أنت الآن ومن أين جئت
قلت نعم أنا في المدينة وتركت قريتي منذ سنة وكنت أعمل فرّانا في أحد الأحياء ولما اشتد القتال علقت هنا..
رمى لي البطاقة وهو يقول يجب أن تمر على المركز، وهم سيتدبرون خروجك... لحسن حظّك أنّ قريتك لم تشارك في الحرب إلى الآن وإلا لكنت في عداد الموتى..
أخذت البطاقة كانت الصورة محترقة بسبب الانفجار يبدو أنها لأحد الشباب الذين أرادوا قتلي.. اسمه فتحي... اسم جميل ليس سيئا.. بضع ساعات كانت كافية لأستعيد عافيتي في المشفى الميداني ... يبدو أنه غير تابع للجماعات المتشددة، فهي لا تهتم إلا بالقتل، إنه للمعارضة المعتدلة، دون رقابة خرجت مسرعا صوب الشارع الجانبي باسمي الجديد شعرت أني وُلدت مرة أخرى .... لا أعرف شيئا عن فتحي هذا، لكني سأستغل الأمر إلى أن أخرج من هذه المدينة التي يتقاسمها الأخوة الأعداء، الكل يشك في الكل ولا شيء مضمون... أسير وأتحسس المذكرات تحت القميص، كأنها تميمة تحميني أو ربما أنا تميمتها التي تحميها، أشعر دائما أنها سبب بقائي حيا، كأنها تقودني إلى حيث يجب أن أكون... لكن خيْطها الأول في المقبرة وأنا مطارد والمقبرة تحت سيطرة أكثر الجماعات تطرّفا... سأجد حلا ... لكن كيف؟ ربمّا لو صرت واحدا منهم... اففف لا يمكن أنا أمقتهم، لكنها الطريقة الوحيدة للوصول إلى المقبرة ... لمَ لا انتظر قليلا لعلهم يهزمون في المعارك.... أو أخرج من المدينة وأحضر المساعدة... الأفكار لا تتوقّف على التهاطل ورأسي المسكين يكاد ينفجر وأنا أجول أطراف المدينة باحثا عن ملجئ، لأتمكّن من التحضير للهروب... شيء مخيف أن تفقد بوصلة الحياة، وتظل هائما في بحر متلاطم من الموت والفجائع ... كان الألم والموت والفقْد يسير معي في شوارع المدينة الحزينة، لا أكاد أمرّ بشارع إلا وثكلى تصرخ أو رجل يقطّع قميصه في الشارع حزنا على أطفاله الذين قضوا في آخر قصف، الجميع يستعد للموت المؤجل، لم يعد الناس يأبهون بي فيبدو أنهم جميعا تحوّلوا إلى فتحي أظن أن هذا اسمي الجديد ... اللعنة قد نسيت اسمي الحقيقي أظنه أمين أو مراد... لا يهم، المهم أني أشعر بوجودي وأني إنسان لا زال يريد البقاء ...

google-playkhamsatmostaqltradent