recent
أبحر معنا

مقامات الوهن العربي -المقامة التونسية

المقامة التونسية




في زمن أحد رؤسائنا الكرام، كثُر الخير والرخاء والوئام وقلّ الشر والعناء واللئام، وصارت السّلع تباع بأرخص الأثمان، والناس مدفوعين ـ في عهده ـ لفعل الخير دون حُسبان، فعُمّال الإدارات يهبُّون لخدمة الوافدِ، يعرفونه أو دون عرفان، ونَقُصَتْ الطوابير لسرعة الخدمة و التفان، والكل يمشي في الطرقات وبسمتُه تُترجمُها الشفتان، إنْ حدّثْته يكاد يضحك من السعْد،  فلا تجد فيهم غضبان، والمساكن لكثرتها في بلادنا صارت خاوية بلا سكان، ففي كل مكان ترى سكنات وعليها قَيِّمٌ يقول لك: واحدةُ أو اثنتان لك، بلا ثمن المهم أن تكون فرحان، والطرقات نظيفة مصقولة كأنها صنعت من الرخام، وقلّ المتسولون لانعدام الحرمان، حتى صارت جدّتنا تحكي لنا عن المحتاجين من العربان، لأنهم في زماننا صاروا في خبر كان، والسيارات جديدة بأرخص الأثمان، أما البنزين فدفع ثمنه حرام... ولهذا الخير كلّه قرّرْت الرحيلَ وترْك الأوطان، لسْت أحمقًا طبعا ولا بي هذيان، لكنني سمعت جدي مرّة يقول: " علّموا الشدّة الفتيات والفتيان"، فخشيت أن يصيبني رخاء بلادي بالأوهان، خاصة أن كل شيء فيها صار سهلا بسيطا، وكأن من يخدمك الجان، ما عليك إلا الطلب وسيكون أمامك في ثوان، صرنا في الجنة قبل الأوان ... لهذا كان عليّ مغادرة الأوطان، فالجنة لا تعلم الصبر لأنْ ليس فيها حرمان، فقرّرْت الرحيل ليشتد عودي والزمام، بأرض توفّر لي القوت باحترام.
بدأت رحلتي نحو الشرق، وكانت البداية تونس، خضرتُها باديةٌ وهواؤها يونس... وأبْنِيَتُها مصفّفة كأنها رسمت بيد فنان، وطرقاتها واسعة وحدائقها جنان، ومحلاتها منتشرة في كل الأركان، وأصحابُها لا يتركون غريبا يمر دون حُلوان، تجولت حتى كلَّت قدماي وصِرْتُ جد جوعان، وحلقي للشراب صديان، فنظرت من حولي وحملقت بالمحلات وكأن بي هذيان...



رأيت من بين ما رأيت مطعما يبيع لحم الضأن .. كأني لحظتها في المنام..



بعد معركة اللحم والغلال، صرت أرى على اليمين والشمال، علّني أرى مهربا لأني بلامال.... مرّت الدقائق بسرعة  وشارف الليل على الانتصاف، وبدأ الزبائن الأعاجم في الانصراف، ولم يبقَ في المحل غيري والشوَّاء والغلمان وبعض رؤوس الخراف، وُضِعَت لِتُوهِم الزبائن بأن صاحب المحل نزيه متَّسِمٌ بالعفاف... فتقدّم مني أحد الغلمان يحمل ورقة بها رقمان، فعجبت ثم فرحتُ فالحساب بسيط. أتراهم نسوا أم أنهم عميان، فأخرجت من جيبي قطعتان وقلت للغلام خذ واقتسم الباقي مع الغلمان، فضحك الغلام وقال: أتمزح يا سيدي أم تراك سكران؟!، فقلت: ماذا دهاك أيسكرني اللحم، أم الفاكهة والرمان؟.

فقال: ما هذا الذي أعطيتني؛ قطعتان، إنهما لثمن تفاحة مما أكلت لا يوفيان.
فقلت: عجبا! ألم تكتب في الورقة رقمان؟ فقال: أمعن النظر فبعد الرقمين صفران.
فقلت: فعلا هناك صفران، لكن الأصفار لا تحسب، أم تراك جاهلا بالحساب والبرهان؟! .
فقال: لا يا سيدي أعرف الحساب، و الأصفار  إن كانت على اليمين تُحسب وإن كانت على الشمال لا نضعها في الحسبان.
فقلت: نحن متفقان ، الصفران على الشمال لا يحسبان.. وهما على الشمال فلا يُدرجان...
فقال: سيدي، هذان الصفران على اليمين، أنظر في الورقة إنهما مبيَّنان.
فقلت : كيف ذلك؟! ألسنا باليمين نأكل كما أوصانا رسول الرحمن.
قال: بلى سيدي بها نأكل ونقشر البطاطا والبصل، ويخنق بها الإنسان أخيه الإنسان...
قلت: إذن فأنا على صواب وأخطأت يا غلام.
فقال: لم أخطئ وادفع الحساب بلا كلام.
فقلت: بل أخطأت بيميننا نأكل لا الشمال وهذا ما أقررته يا خادم الأعيان، وبهذه آكل ـ وأشرت للشمال ـ فهي اليمين، والأخرى الشمال، وعليه ففي الشمال كتب الصفران.
فقال والشرر يتطاير من عينيه: أنت تأكل بالشمال لا باليمين، وستدفع ثمن الطعام وإلا سننادي الزعيم.
فقلت: هل المطعم من ممتلكات الزعيم؟
فقال الغلام: هل تعرف الزعيم
فقلت: وهل هناك شخص لا يعرف الزعيم؟ فهو من يملك كل شيء المطعم والأراضي وهو بكم رحيم.
فقال: أجل أجل هو رحيم كريم.
فقلت: إذن ناده لأختبره إن كان كريما أو كما سمعت من بعضهم أنه لئيم..
فقال: لا .. لا هو ليس موجودا فقلت: إذن هو لئيم...!؟
فقال: لا تكثر معي الكلام، وادفع ما عليك بسلام..
فقلتُ: مادمت مصمما على الدفع فلن أعطيك لا فلسا ولا دينار.
فقفز من مكانه وهو يقول: لا يريد دفع ثمن الطعام، تجّمعوا يا غلمان..
فاجتمع حولي خمسة  والشوّاء يحملون السواطير، فقالوا كلمة رجل واحد: ادفع وإلا رأسك سيطير.فقلت : لن أدفع، فلا مال لي، و لا لما أكلت عندي نظير، فثيابي رثة، ولحمي لا ينفع لطهو المرق ولا الفطير..
فقال الشوّاء: ولِمَا طلبْت كل هذا الأكل وأنت فقير؟
فقلت: جعتُ وأصابني كرب خطير.
فقال الشوّاء: لا يهمني ما أصابك، عليك دفع الدنانير.
فقلت : آلا ترأفوا بحالي، اعتبروها صدقة، ستأخذون بها الأجر الكثير.
فقال: لا نريد... فعندنا الخير فنحن نصوم ولا نسرق، ولا نرأف بالفقير.
فقلت: إذن فوداعا يا رأسي قبل ان تطير..
فقال : هناك حل.. تعمل عندنا بلا أجر
فقلت: يشرفني العمل فأنا مناضل، ولكن هناك شيء أنت به جاهل.
فقال: ما هو؟
قلت: سأعمل، ولكن لن أقشر بصلا ولا بطاطا، ولن أغسل صحونا ولن أمسح بلاطا.
فقال: ماذا ستعمل صاحب محل أم واحدا من الزبائن؟!
قلت: أما صاحب المحل... فلا أحب المسؤولية، وأما زبون فشيء جميل.
فصرخ في وجهي: سحقا أيها المحتال العليل.
ثم اقترب مني والغلمان، لضربي أو قطع اللسان...
فقلت: انتظروا سأعقد معكم اتفاق، ستجنون من ورائه ربحا لم تتوقعوا أنه لكم سينساق.
فقال الشواء : قل ما لديك، واحذر المراوغة فلن تنجو هذه المرة من العقاب.
فقلت: تريثوا يا أصحاب سأجعل من مطعمكم قبلة للزوّار والأحباب، سيقصدونكم من كل حدب وباب.
فقال: ماذا ستفعل؟.
قلت ـ هامسا ـ : بدل أن تبعوا الأجانب لحم الحمير، نبيعهم لحم الخنزير، وبدلا من العناكب والصراصير، نضع لهم في الصلصات أوراق الصنوبر والجرجير.
فاهتز الشوّاء وقال: ماذا تهذي؟ نحن نبيع لحم الحمير؟!.
فقلت: ومعها الكلاب والقطط، وربما الفئران والصراصير.
فقال: أخرج ولا أريد أن أراك ثانية أيها المحتال الحقير .
Reactions:
author-img
الأدب والفن التفاعلي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent